Content on this page requires a newer version of Adobe Flash Player.

Get Adobe Flash player

             


قالت الصحافة

 تاريخ النشر : 31 /10 /2017

أهمية جواد سليم

فيصل لعيبي صاحي

 

تكمن أهمية جواد سليم (1920 – 1961) في البنية المعرفية التي قدمها لنا أساساً، حيث تمثل الثقافات والتاريخ وعلاقة المبدع بالمجتمع والمعرفة، وجهده يغطي مساحة واسعة تختلط فيها الأحداث الفنية والاجتماعية والسياسية من خلال ربط التاريخ الخاص بالفن مع التاريخ العام للإنسان، وأوجد الصلة الحقيقية بين العصر الحديث والحضارة العراقية القديمة .

كانت مهمة جواد معقدة جداً، لأنها تهدف الى إنتاج ثقافة ومعرفة مستقلة في منطقة خاضعة لأوربا، التي لاترى فيها غير منجمٍ للمواد الخام، أي أنه أراد تقديم ثقافة لم تقدم بعد أو أُسيء الفهم في تقديمها، ومن حسن حظه أنه يقف على أرضٍ تتكدس فيها الحضارات مثل طبقات الأرض، وتتصف بالحيوية والتدفق والتنوع والاستمرار .

اعتقد أن جواد في حاجة الى قراءة جديدة وإعادة نظر أخرى ، لأن مجايليه لم يمتلكوا ما نملك من معارف جديدة حول الفن والمجتمع وكذلك من مناهج أكثر تدقيقاً من مناهج الخمسينيات .

لقد خلق لنا جواد منهجية جديدة تمتلك قانونيتها ولها القدرة على إنتاج فن ومعرفة تقابل ما للآخرين من معارف وفنون وثقافات، منهجية لا تلغي الآخر ولا يقدر الآخرعلى إلغائها ، منهجية دايلكتيكية ، إيجابية .

وقد أثبت للآخر عملياً تعدد وجهات النظر واختلافها في فهم المشهد الفني في منطقتنا .

كان جبران خليل جبران أقرب الى الحالم من جواد الواعي ، وكان المثال المصري محمود مختار ينتمي الى الماضي والمجتمع الزراعي أكثر من انتمائه الى العصر الحديث ، رغم أنه الرائد الأول في مسألة لفت نظرنا الى الهوية والتراث في الفن والثقافة عموماً ، والمعروف أن أوربا قد خلقت تصوراً عنا يعود الى الماضي وهو تصور ثابت غير قابل للتغيير ولا تسمح بتغييره ، ولا يحق لنا تحريكه أيضاً ، وهو تصور غريب مملوء بالأعاجيب والخيال والمتعة التي يفتقدها الغربي في بيئته نفسها، وهي صورة مشوهة وتتصف بالعنصرية وتنعتنا بنعوت وحشية عموماً،  فمن غير المسموح لنا تقديم نتاج معرفي لماهو مخالف للتصور الغربي حولنا.

ولما كانت أوربا هي ولية الأمر عندنا طوال النصف الأول من القرن العشرين ، وهي التي تعرف ما هو مناسب وما هو غير مناسب بالنسبة لنا كما يدعي معظم مخططيها الستراتيجيين ، فمن غير الممكن أن يغامر أحدنا في انتهاك هذا البناء العالي، الذي بنته أوربا لنجلس داخله كشعب ينتظر دوره التاريخي ليلعبه وفق الحدود المرسومة له من قبل ولي أمرنا الرحيم : الرجل الأبيض، أو بناء الى " الآيديولوجيا البيضاء " حسب وصف جاك داريدا  للمركزية الأوربية، لقد كتب يوهان فابيان في كتابه : (الزمن الآخر – كيف تصنع الأنثروبولوجيا موضوعها) والصادر في عام 1983 يقول ما معناه : من الضروري دراسة الآخر ومعرفة شروط حياته لغرض السيطرة عليه ، أما برنار لوي  فهو يرى بصعوبة امتلاكنا لثقافة ما ، أو نملك حتى حماسة للبحث عنها ، ودانييل بابيس  في كتابه : ( في سبيل الله) الصادر عام 1983أيضاً ،  يرى "من الواجب توجيهنا الوجهة الصحيحة التي تراها أوربا نافعة لنا ، لأننا لانحسن التعامل مع ما يجري حولنا".

هنا يكمن دور جواد سليم وأمثاله ، الذين كسروا القاعدة السائدة وغيروا النظرة الدونية نحونا وقضوا على احتكار المعرفة والثقافة والفنون . فأصبح في الإمكان إنتاج ثقافة وفن تقابل ثقافة وفن الآخر وتقف في مستوى واحد منها، دون تحيز أو مغالاة .

إن التحرر من المركز والقطب أو المرجعية الواحدة أياً كانت طبيعتها يسمح في خلق فرص عديدة للتجاوز والإبداع والتنوع والحيوية . إن جواد واحد من رواد هذا التحرر ومعه ومع أمثاله ظهرت المنهجية الجديدة التي تنظر الى الأمور بمنظار مختلف الزوايا والاتجاهات، أي التعددية في النظر للموضوع نفسه .

يعتبر جواد من المثقفين العضويين في مجتمعنا، وهو مساهم فعّال في صياغة توجهاته الروحية والجمالية ، إضافة الى كونه فناناً شعبياً من الطراز الأول، حيث فجر مكنون هذا الشعب وقدمه بشكل عصري يتناسب مع ماكان سائداً في فترته من محاولات التجديد الحقيقية، حيث يشترك مع فائق حسن ومحمود صبري ومديحة عمر ونازك الملائكة وبدر شاكر السّياب ومحمد مكية ورفعت الجادرجي وعلي الوردي وطه باقر وعبد الجبار عبد الله وجواد علي وعلي جواد الطاهر ومتى عقراوي وغانم عقراوي ونوري ثابت  (حبزبوز) وغازي الرسام وصادق الأزدي وحقي الشبلي وعزيز علي وجميل بشير وسلمان شكر وغانم حداد وعبد الله كوران وغائب طعمة فرمان وعبد الملك نوري والجواهري وفؤاد التكرلي ويوسف العاني وهاشم الخطاط ويحيى فائق ومحمد القبانجي وحضيري ورضا علي وعباس جميل وعفيفة إسكندر ولميعة توفيق وزهور حسين وسليمة مراد وإبراهيم جلال وجعفر السعدي وزينب وناهدة الرماح وجمهرة لاتعد ولاتحصى من المبدعين ، في إرساء قواعد الحداثة في الثقافة العراقية المعاصرة .

لقد رفض جواد الثقافة الملفقة ودعا الى ثقافة أصيلة لاتنقطع عن الجذور ولا تغلق بابها عن الجديد في الفكر الإنساني المتنور . ثقافة  "أصلها ثابت وفرعها في السماء" ، لقد جعلنا جواد ورواد الحداثة في بلادنا، قادرين على إنتاج ثقافتنا الوطنية ، بعد أن كنا نستهلك ثقافة الغير ونعتاش عليها .

يمتد خيط الخلق والإبداء لدى جواد ، منذ انشغاله في المتحف العراقي القديم بتكليف من المربي ساطع الحصري، ففي تلك الأوقات الباهرة أدرك جواد عمق المهمة التي تنتظره في هذا المعبد الإبداعي لفناني بلاد ما بين النهرين الأوائل، هناك أخذ جواد يزيح التراب عن جبين كوديا حاكم لكش وعن كتف دودو الكاتب، وراح يوسد تماثيل العراق القديم أرضية المتحف وكأنه يوسد أحد أفراد عائلته، يتأمل ذاك البهاء ويغور في عمق تلك العيون، ملاحظاً بحساسيته المرهفة النسب الجمالية والتشريح المتميز وكذلك المقاييس المخالفة لمقاييس الجمال الغربي .

كانت خطوته الأولى في هذا الإتجاه : منحوتة : البناء ، التي وصفها بشكل عفوي وحمّلها أربعة اتجاهات : فرعونية -آشورية - غوطية وإسلامية، في آن واحد .

كانت قطعة البنّاء ، أول عمل فني ناضج، يملك مقومات الفن المحلي في العراق، لقد استوحى القطعة من ملاحظاته للأسطه طه البناء الذي رافق مسيرة جواد منذ الطفولة، فحاول الاستفادة من الفن الآشوري والفرعوني والغوطي وحتى الإسلامي من خلال القوس البارز في القطعة، لكنه دون وعيه جسد  الروح العراقية فيها، فهي نموذج حديث للنحت الآشوري الذي يتميز بالقوة والمتانة .

يأتي الواسطي ، كطفرة ثانية لجواد، نحو التراث الوطني لبلاد ما بين النهرين ، فتلعب المصادفة هنا دور الدليل ، وتتكحل عينا جواد برسوم الفنان يحيى بن محمود بن يحيى بن كورويه الواسطي الذي زين وخط مقامات الحريري في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، ويقف الحصري مرة أخرى وراء هذا التوجه، حيث يطلب من الفنان الكبير عطا صبري، بتكبير بعض رسوم الواسطي للمتحف .

يذكر الفنان إسماعيل الشيخلي، أن جواد قد تلقى رسالة من فرنسا عليها طابع بريدي فرنسي للوحة الفنان يحيى الواسطي، بمناسبة إقامة معرض الفن الإسلامي آنذاك. وهناك تفاسير مختلفة لما آل أليه أسلوب جواد سليم ، لكنها تتفق جميعها على جدية جواد في بحثه عن أسلوب يمثل فنون بلاد وادي الرافدين، مع إصرار على ربط كل هذا بالعصر الحديث،

لقد تم التأكيد على هذا المنحى، لفن جواد قبل أن يسافر الى بريطانيا لإكمال دراسته ، التي انقطعت بسبب الحرب العالمية الثانية وقتها، فذهب الى هناك وهو مملوء بطاقة فنية محلية بعيدة الغور .

من المهم هنا التوقف عند الدور المبالغ فيه الذي أعطي لبعض الفنانين البولونيين، في بلورة وعي الفنانين العراقيين، والتي ذكرها العديد من كتاب المقالات الفنية في العراق، حيث صوروا هذا الدور كالملهم للفنان العراقي الذي بدا وكأنه غير قادر على متابعة ما يجري في العالم من تطورات فنية وبالذات الحركة الانطباعية ، خاصة وأن معظم الذين تكلموا عن ذلك، قد تناسوا أن الفنان أكرم شكري قد عرض لوحته الشهيرة : ضباب في لندن ، قبل وصول البولون للعراق ، وبالتحديد في المعرض الذي اقيم عام 1936 ، وهي لوحة مرسومة بالأسلوب الانطباعي القريب من أسلوب بيير بونار أبرزجماعة الأنبياء الذين كان الفنانون البولون متأثرين بهم، صحيح أن فائق حسن وكذلك جواد سليم قد تركوا لنا بعض الملاحظات وبعض الأعمال عن تلك الفترة ، لكنني أعتقد أن جواد وفائق كانا يذكران البولون في هذا الصدد عرفاناً بصداقة وبسبب المودة والتقدير المتبادل بين الطرفين، ومن باب التواضع الذي عرفا به. ويؤكد هذا، قصر فترة هذا التوجه .

كان النحاتان رودان، بورديل وريج بتلر، والرسامون  بيكاسو، خوان ميرو، باول كلي وماتيس، أهم الفنانين الأوربيين الذين تأثر بهم جواد سليم، لكنه صاغ أعماله بطريقته الخاصة بعيداً عن التقليد المفضوح والتبعية الفارغة .

من هذه المصادر الثلاثة: الفن العراقي القديم، الفن الإسلامي والفن الحديث، شكل جواد منظومته الجمالية وقاموسه اللوني وخطوطه، مضيفاً أليها حسه الشعبي الأصيل، متمماً بذلك ما بناه الأوائل من فناني بلاد وادي الرافدين منذ آلاف السنين.

لقد جمع جواد فن التشكيل في شخصه بكل معنى الكلمة ، فكان نحاتاً ورساماً وخزافاً ومصمماً إضافة لاهتمامه بفنون أخرى ، كالموسيقى والشعر والمسرح والسينما، إذ كان جواد أقرب الى الموسوعي منه الى المختص بفن واحد ، وقد ساعدته إقامته في ثلاثة بلدان على توسيع دائرة اهتمامه .

يمكن اعتبار نصب الحرية لجواد خلاصة فنه ورسالته التي أراد أن يوصلها لنا نحن العراقيين وكذلك للعالم، ويعد هذا النصب من أهم نصب العالم في القرن العشرين ، فهو بمصاف الجورنيكا وجداريات ريفيرا المكسيكي وغيرها من الأعمال العظيمة لفناني العالم بكل العصور.

الورقة التي قدمها الكاتب في مهرجان الموصل بلندن.

 

جريدة المدى