المقهى
تاريخ النشر :
28
/4
/2018
الجدة مريم
برهان المفتي
خاص بـ "الموروث"
كان
الآباء يحتفظون برقمها مكتوباً قرب جهاز التلفون ، يهرعون إلى
ذلك الرقم في أول صرخة تطلقها الزوجة كإشارة قدوم المولود
الجديد، كما كانت الأمهات يوصينَ بناتهنّ بحفظ ذلك الرقم في
القلب والذاكرة، لكي يتصلوا به في أي حالة طارئة وهنّ في شهور
الحمل، أو ساعة الطلق حين يكون الزوج والأب في العمل وخارج
البيت.
إمرأة من أصول أرمنية، عائلتها هاجرت من تركيا أثناء المجزرة
الكبرى، وجهها بِشر بابتسامة دائمة ، نظارة تجلس على أنفها
القصير، خدودها الممتلئة تضيف لابتسامتها حضوراً محبباً، تحمل
حقيبة جلدية وهي تنزل من سيارة تاكسي خاص بها ، أذكر أنها كانت
سيارة أمريكية ضخمة ربما من موديلات نهاية الخمسينيات أو بداية
الستينيات، حين تدخل أي بيت فعلى الرجال والأولاد المغادرة، في
انتظار سماع صوت بشارة، بكاء مولود جديد.
الجدة مريم، كانت الملاذ في ساعة عسرة الولادة، وكان حضورها
يهدىء قلق الأزواج، فمع ( جدة مريم ) تحضر البشارة، حين تخرج
من إحدى غرف البيت، بابتسامتها الجميلة، فتنشر الخبر ولداً أو
بنتاً، ثم تفتح سجلها الكبير فتسجل فيه الولادة.
حتى حين كبرنا وبدأنا اللعب في الزقاق، كنا نرى تلك السيارة (
التاكسي ) وهي تزور بيوت الزقاق ، البيوت التي فيها عروس جديد
، أو حالة حمل متكرر، فتقف قربنا وتعرفنا بأسمائنا، وفي حال
بعضنا كان هي مَن اختارتْ الاسم كنوع من الشكر لها يقدمها الأب
، خاصة حين تكون الولادة هي لمولود يحمل رقماً قريباً من
العشرة، ففي تلك الأيام كانت العوائل تتفاخر بولاداتها
المتكررة، بل كانت نوعاً من الغيرة النسائية بين نساء المنطقة
الواحدة والزقاق الواحد، فالأب له تسمية البكر، والأم لها
تسمية ما بعد ذلك، وحين يصل الرقم إلى الولادة السادسة أو
بعدها، يبدأ الأب بمشاركة الفرحة مع الجميع، فيختار الإسم من
هذا الجار أو ذاك، أو الإختيار المحايد وهو ما تختاره الجدة
مريم، وهو الأسلم للزوج لضمان عدم المشاكل في البيت وعدم زعل
الجيران.
كان سجل الجدة مريم أرشيفاً لعوائل كركوك، ومرجعاً معتمداً في
حال السؤال والتأكد من عمر المرشحات للزواج، إذ تسرع الأم التي
ترغب بزواج إبنها إلى الجدة مريم لكي تسألها عن تأريخ ولادة
البنت التي تريد أن تكون زوجة إبنها، لكي تتأكد أنها أصغر من
إبنها بسنوات مريحة، وذلك شرط كانت العوائل تحرص عليه، وكان
الجواب دائماً في سجل الجدة مريم.
ربما كان آخر مرة شاهدتُ فيها سيارة الجدة مريم في منتصف
السبعينيات من القرن الفائت ، أذكر حتى المكان، في بيت قريب
قرب مدرسة كركوك الإبتدائية للبنات، تلك المدرسة التي تم هدمها
في حملة هدم المدارس دون بناء البديل، غير أن صورة الجدة مريم
في ذلك المشهد الآخير ما زالت حاضرة وأمي تسلم عليها بحرارة
وهي تشير لي قائلة : نعم كبر الأطفال يا جدة .
تنبيه
لايُسمَح
لأية صحيفة ورقية او موقع ألكتروني او مدونة او موقع شخصي او
صفحة تواصل اجتماعي بإعادة نشر موضوعات او صور مجلة "الموروث"
من غير إدراج اسم كاتب الموضوع وكذلك اسم المجلة بصفتها مصدرا
، عملاً بضوابط الملكية الفكرية والأمانة الصحافية.
|