النافذة المفتوحة
تاريخ النشر : 16 /11 /2017
ذاكرة مكان
عمود الإنارة العتيد .. العصافير والحمام
صباح محسن جاسم
اديب عراقي
خاص بـ "الموروث"
أن تتأمل عمود انارة وسط مشانق وشنّاطات وشِباك وخبيص اسلاك
زحفت كعصيّات – كوخ - ، حتى تشع ّ بتلابيب دماغك بقايا نور
معتّق متسللة ما بين شغاف القلب ، وحنان ربما فيه بعض " لوم "
وممازحة " اغراء" على هوى الشاعر أبي نؤاس وضوء قصيدته -
دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ
-
حذو هذا العمود كان لقبقاب الفتاة الخياطة (ريجينا ) وقعه
المحفّز لصباح كله اشراق .. من هنا والى زقاق – اليهودية – كان
للحركة النسوية في هذه المدينة المتكئة على نهر الفرات شأنها
خمسينيات قرن مضى. يوم حلّت فيه المعلمة ست بلقيس الشيخلي
القادمة من بغداد وزاولت نشاطها مع رفقة قادة جماهيريين
عرفتهم هذه المدينة الصغيرة قبل قيام ثورة الرابع عشر من تموز
عام 1958 وصارت تقلق عليهم.
في الأربعينيات كان الشارع الرئيس المؤدي الى – سراي – المدينة
ومخفر الشرطة يضاء بالفوانيس حيث يعتني بها ( لمبجي) بالنفط
وفتيلة الشعلة.
الناس كانت تعي معنى الأحتلال والتدخّل في حياة الشعوب الآمنة،
فترد بالمظاهرات المكثفة التي تلاحق الشرطة الناشطين الوطنيين
فيها وتلقى القبض عليهم ليغيّبوا في السجون. لم يستغربوا
الغرض من اقامة جسرٍ لعبور المركبات وانشاء محطة للقطار وعمل –
رمْبة - كبيرة لنقل المعدات والمؤونة والسلاح الى معسكر
المحاويل.
قُسّمت الأراضي ووزعت البساتين على الأقطاعين وصاروا ملّاكا
وسراكيلَ ، ونظمت زراعة النخيل في مناطق تواجد قطعات العسكر.
أفادتنا السيدة بلقيس الشيخلي بين جمع المعلمات والمدرسات
بالقول : "
تعود بي ذاكرتي إلى المرة الأولى التي أرى فيها مدينة المسيب
وكان ذلك في تشرين الثاني من عام ١٩٥٨ حيث عينت معلمة فيها.
وصلت اليها بصحبة والدي رحمه الله ، بعد ان اكملنا المراجعات
الرسمية حلّت الظهيرة ولم نكن نعرف احداً في المدينة ، تجولنا
في الشارع الرئيس بدءاً من السراي الحكومي حتى وصولنا قرب
الكراج، أذكر ان الناس نظروا الينا باستغراب ولكن بمنتهى الخلق
والسبب ادركته لأني كنت سافرة وكان الوضع
العام مختلفا ، كان اللبس العربي اي العقال والدشداشة هو
السائد ولم ارٓ كثيراً من النسوة وكن يرتدين العباءة والبوشي.
وصلنا مكانا فيه مقهى صغير يُشوى فيه الكباب،
جلست وابي هناك لتناول الغذاء وزاد استغراب الناس والنظر الينا
وهنا بانت الطيبة المسيباوية اذ جاءنا رجل باناقة حضرية وقدم
نفسه لابي بإسم - حمزة العلوان - صاحب مكتبة السلام كانت قبالة
المقهى، يدعونا لتناول الغذاء في بيته. شكره والدي واعتذر
لأننا على عجالة من اجل العودة الى بغداد
وما ان اكملنا الغذاء وشرب الشاي حتى فوجئنا بامرأة ترتدي
دشداشة رجالية مقلمة وياشماغاً وتحمل عصاً بيدها وابتدرتنا
قائلة : هاي البنية معلمة ؟! اجابها ابي نعم، قالت: في بيتي
تسكن مدرسات ومعلمات وستكون ابنتك معهن وفي حماية - وفيّة
الحتروش - وكان هذا اسمها. قال ابي ان
شاء الله يصير خير، ورمتنا بدعابات مضحكة وتبين لي انها تسكن
في الدربونه قبل المقهى.
اخذنا السيارة وعدنا الى بغداد وانا في توجس وابي يردد انهم
أناسٌ
طيبون. المدرسة التي عُينت فيها كانت قرب محطة القطار
حديثة البناء آنذاك وللبنات فقط ، لم يكن الاختلاط سائداً بعد
، حالة التلاميذ بالعموم متوسطة ونظافتهم معتنى بها بجهود
الهيئات التعليمية .
بعد ان داومت بوظيفتي اطلعت على احوال الناس هناك : مكتبة
اهلية واحدة هي مكتبة السلام تحتوي على كتب قيمة ومجلات وجرائد
. بالنسبة للحركة الفنية كانت في المسيب سينما واحدة وناد واحد
هو نادي الموظفين
وعامة الناس، اقصد الرجال والشباب، كانت المقاهي منتدياتهم
ولكن وقتما وصلت المسيب كانت بداية نهوض الشعب العراقي .
بعد ثورة تموز المجيدة ما ان نشطت المنظمات الجماهيرية حتى سرى
دفء الثقافة وحركة التغير عامة في المدينة وتحوّل نموها
الاجتماعي للتقدم والتطور.
في المسيب طوائف متنوعة من حيث المذاهب : المسلمون اولا وقلة
من المسيحيين اغلبهم موظفون في مقدمتهم المدرسات والمعلمات
والاطباء مثلما هناك طائفة اليهود وهم اقلية من اهل المسيب
وبالمثل الأخوة الصابئة وكانوا يمسكون على مهنة صياغة الذهب.
في حصة الدين وكما العادة يخرج الطلبة من الطوائف الأخرى خارج
الصف. لكن الجميل في الأمر أني لم اشاهد او أحضر حواراً
مذهبيا او نقاشا بين الاديان طيلة فترة بقائي في المسيب.
أما اكثر متنفس للمرأة في المسيب فكانت مجالس العزاء الحسيني
والفواتح، ولكن بعد ثورة تموز صارللمرأة هنا اهتمام آخر " –
بعد ان باشرت بوظيفتي واستأجرت ووالدتي بيتاً مقابل
مدرستي النهضة الإبتدائية للبنات وكانت المنطقة حديثة
عهد التشييد وبعيدة نوعاً ما عن مركز الولاية كما
يسمونه !! بدأت استكشف معالم المدينة وبدأت بمنطقة
سكناي، فرأيت محطة القطار والشارع الذي يؤدي الى معمل
الاسمنت ومعمل الحرير وطريق السدة. نظرت للمستقبل بعين
الفرح ، معامل وعمال وازدهار في وطني مطابق لما احب
واتمنى. من الجهة الأخرى تجولت في المدينة واسواقها
وجدتها صغيرة جدا بالنسبة لمدينتي بغداد وشوارعها
واسواقها وناسها لكني أسكٓتٌ هذه المقارنة لامور عزمت
على تنفيذها هنا ، شاهدت السوق مع والدتي بخيراته
الطازجة المتوفرة واول ما اعجبني (الگيمر) - القشطة -
وطريقة بيعه بتلك الاواني الفخارية وبياضه النقي دليل
عدم الغش في تلك الحقبة من الزمن .
ما اربكني نظرة الناس المتسائلة وهمسهم ( بغدادية
غريبة ، معلمة) ولكن لا احد تجاوز ادبه ابداً سوى
نظرات الشزر من بعض النسوة لأنني كنت سافرة . كانت امي
تناقشني وتنصح أن اضع العباءة ، فاقبّلها واجيب ان لا
فرق لدي سيعتادون وستأتي زميلة أخرى ويزداد عدد
السافرات حتى من اهل الولاية وتحققت الرؤى بعد حين.
في السوق تجذبني رائحة السمك وعائلتي تشتهيه. هناك من
دلني على اروع ما اشتريته من صيادين على النهر عرفت
طريقي الى ابدع مناظر الطبيعة على الفرات وانا اقف في
الصوب الكبير للمدينة واتطلع الى صوبها الصغير وبساتين
نخيله وجسر المسيب واتنهد مشتاقة لحبيبتي بغداد
متسائلة لماذا انا هنا ؟ فأحسم عامل قلقي" يلله على
جسر المسيب سيبوني" واحيانا ابكي شوقاً بألم شبابي
منفعل اريد مرتعي ببغداد وأهديء نفسي اني قدمت هنا
لهدف أسمى وتهدأ خواطري .
بعد اقل من شهرتعينَت في مدرستي نفسها زميلة بعمري
ومعرفة لي وسافرة من بغداد اسكنتها معي لحين تقرر
مكانا لسكنها اذ كان بالقرب من سراي الحكومة بيت
للادارة المحلية يأوي المدرسات والمعلمات والموظفات
ومن ترغب تأوى اليه. لاحظت في ذلك الوقت الامن والامان
والناس كل بحاله بالرغم ان قرب المدينة اكبر حامية
عسكرية وتشاهد حركة الضباط يتوافدون من اجل الذهاب الى
نادي المدينة وحركة الجنود في السوق او گراج المدينه
ولكن كل الحركة طبيعية وهادئة ما كان يهمني مراقبة
النساء وكيفية التعرف والتقرب لمجتمعهن المغلق وفي
ليلة كثرت الحركة االنسوية والاطفال ومن غروب الشمس
علمت أن اليوم هو( المحيا ) وفهمت انها زيارة النصف من
شعبان وفي منطقتي ببغداد يسمونه صوم البنات وتعلمت من
نسوة المسيب ان هذا اليوم يمثل السهر لغاية الفجرتتخلل
ذلك قراءة الادعية والتضرع لاستجابة الطلبات وكن يرددن
: (غمّج علي يالنايمه هي بس هالليلة). وكانت اول
اختلاط لي مع نسوة من الجيران، ارجو ان لا اكون مملة
فذكرياتي جميلة ولم ابدأها بعد
... " |
من هذا الجوار اعتاد يوسف الفحّام بيع الفحم بعربته التي يذكر
كبار السن كيف سقطت مرة في النهر وكاد أن يغرق هو والعربة..واذ
تضوع المكان رائحة الشاي المهيّل وشواء المعاليق والكباب ،
تخرج (ريجينا) الخياطة من منزلها لتشتري ما شحّ من بكرات
الخيوط وطباقات الملابس ولن يفوتها بطبيعة الحال المرور
بدكاكين صاغة الذهب الذين ينبهرون لجمالها وطول ضفيرتيها وهما
تتلاعبان على ظهرها بزاهي فستانها – القسطور – غامق الخضرة
-.
من هنا مرّ كثيرا المناضل أحمد حسون الخطاب وسيد جعفر ابو
العيس وصلاح الدين الخزرجي وصادق محمد الجلاد رفقة موزع
المناشير – حسن الركاع – وقائد منظمة الشبيبة المعلم مهدي عباس
الأنباري وحسين الصائغ
وتباعا مسلم الأحمر وبرهان الخطيب والقابلة المأذونة ام حسام
الزوين وابنها المناضل حسام يوسف وموسى السيد فاضل وسكران حسين
مرهج وتركي غالي والخطاط خضير عبود المكنى بخضير بلوزه ..
وغيرهم ..
حول هذا العمود يتجمع الطلاب يطالعون دروسهم تحت صرير الخفافيش
ومواء القطط ونباح الكلاب وصياح ديك الفجر فلم يمنع كل ذاك
الطالب حمزة خضير الدجيلي – لاحقا نبغ في علم الفيزياء وطلع
بنظرية وزن الظل – من مواصلة القراءة او حتى الكتابة ببقايا
أعواد الفحم.
اما الطالبات من الصابئة واليهود فكن يلوذن بعليات الشناشيل
يطالعن بجد واذا ما ارهقتهن الدراسة يتابعن السفن الراسية عند
محطة تعبئة الوقود ويتفقدن نهر الفرات بحثا عن اثر للسعلاة
التي اشيع انها تتواجد عند – الشريعة – مع ابنائها سيما حين
يشتد البرد قساوة.
من هنا مر المعلم – حسين محمد الشبيبي – ومثله الشاعر مظفر
النواب وغيرهم كثر .. عمود الأنارة هذا يملك خزينا من الحكايا
بحاجة الى من يستنطقه !
مضى اكثر من نصف قرن ، لنمر بذات العمود والسوق الذي تغزّل
بابنة احد مالكي دكاكينه العاشقُ الجميل توفيق حنون حين يخطف
وقت استراحته من البقال حمزة شويخ ليتقاسم حلوى – ذروق الفأر-
مع تلك الأبنة الصغيرة الجميلة ، فذكر ذلك الموقف في واحدة من
ثلاثيته . وحيث يحط الحَمام في استراحة من تجواله بحثاً عن
اماكن جديدة كي يبني اعشاشه في كوّة تطل من خلالها شمس الصباح
على سوق - القزاونة – وهي تتفقد وتمسّد بأشعتها على جديد فراخ
العصافير والحمام ، حتى تعاود صيفا السنونوات وهي تستعجل بناء
اعشاش الطين والقش بمهارة الجدّات والأجداد فيما تمرق داخل
أزقة – النزيزة – و – الدهدوانة – وأم الصخول – وبقايا الكنيس
دون أن تلتفت إلى النقوش السيريانية بزخارفها الخلابة على
واجهتها ، تلك النبوءة التي افتتن الأهالي بمعرفتها حين تهب
اثرها عاصفة.
عمود الإنارة له صاحب او رفيق ، على انهم ازالوه من مكان قريب
، هذا ما افادنا به العم ( ابو لقاء) صاحب محل لبيع مستلزمات
الخياطة مواصلا :
كانت السفن تتزود بوقود النفط من محطة الوقود مدخل المدينة
وحين دخلت الكهرباء مع دخول الأنجليز لم يوفروها الآ للقلة من
المراكز الحكومية والقلة القليلة من الأهالي وقد حصلت قابلة
مأذونة يهودية على الموافقة بعد ان اوضحت بعريضتها ان عملها
مهم للغاية.
ظل هذا العمود يراقب الطريق على الرغم من انطفاء بصره لكنه
لم يكلّ من سؤاله الوحيد :
- ما حلّ برفيق ضيائي ، هل من خابرٍ يخبرني إن رآه في الجوار
أو في مزادات البيع والعتيق !
تنبيه
لايُسمَح
لأية صحيفة ورقية او موقع ألكتروني او مدونة او موقع شخصي او
صفحة تواصل اجتماعي بإعادة نشر موضوعات او صور مجلة "الموروث"
من غير إدراج اسم كاتب الموضوع وكذلك اسم المجلة بصفتها مصدرا
، عملاً بضوابط الملكية الفكرية والأمانة الصحافية.
|